الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***
{آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)} قوله: {بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ} أي: بِجَمِيع ما أنزل الله: {والمؤمنون} عطف على الرسول، وقوله: {كُلٌّ} أي: من الرسول والمؤمنين {آمن بالله} ويجوز أن يكون قوله: {والمؤمنون} مبتدأ. وقوله: {كُلٌّ} مبتدأ ثان. وقوله: {آمن بالله} خبر المبتدأ الثاني، وهو وخبره خبر المبتدأ الأوّل. وأفرد الضمير في قوله: {آمن بالله} مع رجوعه إلى كل المؤمنين، لما أن المراد بيان إيمان كل فرد منهم من غير اعتبار الاجتماع، كما اعتبر ذلك في قوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخرين} [النمل: 87]. قال الزجاج لما ذكر الله سبحانه في هذه السورة فرض الصلاة، والزكاة، وبين أحكام الحج، وحكم الحيض، والطلاق، والإيلاء، وأقاصيص الأنبياء، وبين حكم الربا، ذكر تعظيمه سبحانه بقوله: {للَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض} ثم ذكر تصديق نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر تصديق المؤمنين بجميع ذلك، فقال {آمن الرسول بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ والمؤمنون} أي: صدّق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها، وكذلك المؤمنون كلهم صدّقوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، وقيل: سبب نزولها الآية التي قبلها. وقد تقدّم بيان ذلك. قوله: {وَمَلَئِكَتِهِ} أي: من حيث كونهم عباده المكرّمين المتوسطين بينه، وبين أنبيائه في إنزال كتبه، وقوله: {وَكُتُبِهِ} لأنها المشتملة على الشرائع التي تَعبَّد بها عباده. وقوله: {وَرُسُلِهِ} لأنهم المبلغون لعباده ما نُزَّل إليهم. وقرأ نافع، وابن كثير، وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر، وكتبه بالجمع. وقرءوا في التحريم، و" كتابه ". وقرأ ابن عباس هنا، و" كتابه "، وكذلك قرأ حمزة، والكسائي، وروى عنه أنه قال: الكتاب أكثر من الكتب. وبينه صاحب الكشاف، فقال: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس، والجنسية قائمة في وجدان الجنس كلها لم يخرج منه شيء، وأما الجمع، فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع. انتهى. ومن أراد تحقيق المقام، فليرجع إلى شرح التلخيص المطوّل عند قول صاحب التلخيص «واستغراق المفرد أشمل». وقرأ الجمهور {ورسُله} بضم السين. وقرأ أبو عمرو، بتخفيف السين. وقرأ الجمهور {لا نفرّق} بالنون. والمعنى: يقولون: لا نفرق. وقرأ سعيد بن جبير، ويحيى بن يعمر، وأبو زرعة، وابن عمر، وابن جرير، ويعقوب «لا يفرق» بالياء التحتية. وقوله: {بَيْنَ أَحَدٍ} ولم يقل بين آحاد، لأن الأحد يتناول الواحد، والجمع، كما في قوله تعالى: {فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين} [الحاقة: 47] فوصفه بقوله: {حاجزين} لكونه في معنى الجمع، وهذه الجملة يجوز أن تكون في محل نصب على الحال، وأن تكون خبراً آخر لقوله: {كُلٌّ}. وقوله: {مِن رُسُلِهِ} أظهر في محل الإضمار للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة في الحكم، أو الإشعار بعلة عدم التفريق بينهم. وقوله: {وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} هو: معطوف على قوله: {آمن} وهو: وإن كان للمفرد، وهذا للجماعة، فهو جائز نظراً إلى جانب المعنى، أي: أدركناه بأسماعنا، وفهمناه، وأطعنا ما فيه؛ وقيل: معنى سمعنا: أجبنا دعوتك. قوله: {غُفْرَانَكَ} مصدر منصوب بفعل مقدّر، أي: اغفر غفرانك. قاله الزجاج، وغيره، وقدّم السمع، والطاعة على طلب المغفرة؛ لكون الوسيلة تتقدّم على المتوسل إليه. قوله: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} التكليف هو: الأمر بما فيه مشقة، وكُلفة، والوُسْع: الطاقة، والوسع: ما يسع الإنسان، ولا يضيق عليه، وهذه جملة مستقلة جاءت عقب قوله سبحانه {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ} الآية لكشف كربة المسلمين، ودفع المشقة عليهم في التكليف بما في الأنفس، وهي كقوله سبحانه {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} فيه ترغيب، وترهيب، أي: لها ثواب ما كسبت من الخير، وعليها وزر ما اكتسبت من الشرّ، وتقدّم «لها»، و«عليها» على الفعلين، ليفيد أن ذلك لها لا لغيرها، وعليها لا على غيرها، وهذا مبنيّ على أن كسب للخير فقط، واكتسب للشرّ فقط، كما قاله صاحب الكشاف، وغيره، وقيل: كل واحد من الفعلين يصدق على الأمرين، وإنما كرّر الفعل، وخالف بين التصريفين تحسيناً للنظم، كما في قوله تعالى: {فَمَهّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17]. قوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} أي: لا تؤاخذنا بإثم ما يصدر منا من هذين الأمرين. وقد استشكل هذا الدعاء جماعة من المفسرين، وغيرهم قائلين إن الخطأ، والنسيان مغفوران غير مؤاخذ بهما، فما معنى الدعاء بذلك، فإنه من تحصيل الحاصل؟ وأجيب عن ذلك بأن المراد: طلب عدم المؤاخذة بما صدر عنهم من الأسباب المؤدية إلى النسيان، والخطأ من التفريط، وعدم المبالاة، لا من نفس النسيان، والخطأ، فإنه لا مؤاخذة بهما، كما يفيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان» وسيأتي مخرّجه. وقيل: إنه يجوز للإنسان أن يدعو بحصول ما هو حاصل له قبل الدعاء لقصد استدامته. وقيل: إنه وإن ثبت شرعاً أنه لا مؤاخذة بهما، فلا امتناع في المؤاخذة بهما عقلاً، وقيل: لأنهم كانوا على جانب عظيم من التقوى. بحيث لا يصدر عنهم الذنب تعمداً، وإنما يصدر عنهم خطأ، أو نسياناً، فكأنه وصفهم بالدعاء بذلك إيذاناً بنزاهة ساحتهم، عما يؤاخذون به، كأنه قيل: إن كان النسيان، والخطأ مما يؤاخذ به، فما منهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ، والنسيان. قال القرطبي: وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام هل ذلك مرفوع، ولا يلزم منه شيء، أو يلزم أحكام ذلك كله؟ اختلف فيه، والصحيح أن ذلك يختلف بحسب الوقائع، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات، والديات، والصلوات المفروضات، وقسم يسقط باتفاق كالقصاص، والنطق بكلمة الكفر، وقسم ثالث مختلف فيه كمن أكل ناسياً في رمضان، أو حنث ساهياً، وما كان مثله مما يقع خطأ، ونسياناً، ويعرف ذلك في الفروع. قوله: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} عطف على الجملة التي قبله، وتكرير النداء للإيذان بمزيد التضرّع، واللُّجأ إلى الله سبحانه. والإصر: العبء الثقيل الذي يأصر صاحبه، أي: يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله. والمراد به هنا: التكليف الشاق، والأمر الغليظ الصعب. وقيل: الإصر: شدّة العمل، وما غلظ على بني إسرائيل من قتل الأنفس، وقطع موضع النجاسة، ومنه قول النابغة: يا مانِعَ الضَّيْمِ أَنْ تَغْشَى سَرَاتَهم *** والحَامِل الإصر عَنْهمُ بَعْدَ مَا غَرقُوا وقيل: الإصر: المسخ قردة، وخنازير. وقيل: العهد، ومنه قوله تعالى: {وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِى} [آل عمران: 81] وهذا الخلاف يرجع إلى بيان ما هو الإصر الذي كان على من قبلنا، لا إلى معنى الإصر في لغة العرب، فإنه ما تقدّم ذكره بلا نزاع، والإصار: الحبل الذي تربط به الأحمال، ونحوها، يقال أصر يأصر إصراً: حبس، والإصر بكسر الهمزة من ذلك. قال الجوهري: والموضع مأصر، والجمع مآصر، والعامة تقول معاصر. ومعنى الآية: أنهم طلبوا من الله سبحانه أن لا يُحَمَّلهم مَنْ ثقل التكاليف ما حمَّل الأمم قبلهم. وقوله: {كَمَا حَمَلْتَهُ} صفة مصدر محذوف، أي: حملاً مثل حملك إياه على من قبلنا، أو صفة ل {إصراً}، أي: إصراً مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا. قوله: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} هو أيضاً عطف على ما قبله، وتكرير النداء للنكتة المذكورة قبل هذا. والمعنى: لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق وقيل: هو عبارة عن إنزال العقوبات، كأنه قال: لا تنزل علينا العقوبات بتفريطنا في المحافظة على تلك التكاليف الشاقة التي كَلَّفْتَ بها مَنْ قبلنا. وقيل: المراد به: الشاق الذي لا يكاد يستطاع من التكاليف. قال في الكشاف: وهذا تقرير لقوله: {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا}. قوله: {واعف عَنَّا} أي: عن ذنوبنا، يقال عفوت عن ذنبه: إذا تركته، ولم تعاقبه عليه {واغفر لَنَا} أي: استر على ذنوبنا. والغفر: الستر {وارحمنا} أي: تفضل برحمة منك علينا {أَنتَ مولانا} أي: ولينا، وناصرنا، وخرج هذا مخرج التعليم كيف يدعون؟ وقيل: معناه: أنت سيدنا، ونحن عبيدك {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} فإن من حق المولى أن ينصر عبيده، والمراد عامة الكفرة، وفيه إشارة إلى إعلاء كلمة الله في الجهاد في سبيله. وقد قدّمنا في شرح الآية التي قبل هذه أعني قوله: {إِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ} إلخ، أنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات: قد فعلت، فكان ذلك دليلاً على أنه سبحانه لم يؤاخذهم بشيء من الخطأ، والنسيان، ولا حمل، عليهم شيئاً من الإصر الذي حمله على من قبلهم، ولا حملهم ما لا طاقة لهم به، وعفا عنهم، وغفر لهم، ورحمهم، ونصرهم على القوم الكافرين، والحمد لله رب العالمين. وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل بن حبان {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ} لا نكفر بما جاءت به الرسل، ولا نفرّق بين أحد منهم، ولا نكذب به: {وَقَالُواْ سَمِعْنَا} للقرآن الذي جاء من الله {وَأَطَعْنَا}، أقرّوا لله أن يطيعوه في أمره ونهيه. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} قال: قد غفرت لكم {وَإِلَيْكَ المصير} قال: إليك المرجع، والمآب يوم يقوم الحساب. وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن حكيم بن جابر قال: لما نزلت: {آمن الرسول} الآية، قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أحسن الثناء عليك، وعلى أمتك، فسل تعطه، فقال: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} حتى ختم السورة. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} قال: هم المؤمنون وسع الله عليهم أمر دينهم، فقال {مَّا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وقال: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185] وقال: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] وأخرج ابن أبي حاتم، عنه في قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} قال: من العمل. وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {إِلاَّ وُسْعَهَا} قال: إلا طاقتها. وأخرج ابن المنذر، عن الضحاك، نحوه. وقد أخرج ابن ماجه، وابن المنذر، وابن حبان في صحيحه، والطبراني، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» وأخرجه ابن ماجه من حديث أبي ذرّ مرفوعاً، والطبراني من حديث ثوبان، ومن حديث ابن عمر، ومن حديث عقبة بن عامر. وأخرجه البيهقي أيضاً من حديثه. وأخرجه ابن عديّ في الكامل، وأبو نعيم من حديث أبي بكرة. وأخرجه ابن أبي حاتم من حديث أمّ الدرداء. وأخرجه سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، من حديث الحسن مرسلاً، وأخرجه عبد بن حميد، من حديث الشعبي مرسلاً. وفي أسانيد هذه الأحاديث مقال، ولكنها يقوّي بعضها بعضاً، فلا تقصر عن رتبة الحسن لغيره. وقد تقدّم حديث: «إن الله قال قد فعلت» وهو في الصحيح وهو يشهد لهذه الأحاديث. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {إِصْرًا} قال: عهداً. وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير، عن ابن جريج مثله. وأخرج أيضاً عن عطاء بن أبي رباح في قوله: {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا} قال: لا تمسخنا قردة، وخنازير. وأخرج ابن جرير، عن ابن زيد في الآية؛ أن الإصر: الذنب الذي ليس فيه توبة، ولا كفارة. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الفضيل في الآية قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا أذنب قيل له: توبتك أن تقتل نفسك، فيقتل نفسه، فوضعت الآصار عن هذه الأمة. وأخرج عبد بن حميد، عن عطاء قال: لما نزلت هذه الآيات: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا} إلخ، كلما قالها جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " آمين رب العالمين ". وأخرج أبو عبيد، عن ميسرة أن جبريل لقن النبي صلى الله عليه وسلم خاتمة البقرة آمين. وأخرج أبو عبيد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال: آمين. وأخرج أبو عبيد عن جبير بن نفير: أنه كان يقول: آمين آمين. وأخرج عبد بن حميد، عن أبي ذرّ قال: هي للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة. وأخرج ابن جرير، عن الضحاك في هذه الآية قال: سألها نبيّ الله ربه، فأعطاه إياها، فكانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة. وقد ثبت عند الشيخين، وأهل السنن، وغيرهم، عن ابي مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه " وأخرج أبو عبيد، والدارمي، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم وصححه، والبيهقي، عن النعمان بن بشير؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، ولا يقرآن في دار ثلاث ليال، فيقربها شيطان " وأخرج أحمد، والنسائي، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب بسند صحيح، عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يعطها نبيّ قبلي " وأخرج أحمد، والبيهقي، عن أبي ذرّ مرفوعاً، نحوه. وأخرج أبو عبيد، وأحمد، ومحمد بن نصر، عن عقبة بن عامر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اقرءوا هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة: {آمن الرسول} إلى خاتمتها، فإن الله اصطفى بها محمداً " وإسناده حسن. وأخرج مسلم، عن ابن مسعود قال: لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى، وأعطى ثلاثاً، أعطى الصلوات الخمس، وأعطى خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات. وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب، عن أبي ذرّ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش، فتعلموهما، وعلموهما نساءكم، وأبناءكم، فإنهما صلاة، وقرآن، ودعاء» وأخرج الديلمي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اثنان هما قرآن، وهما يشفيان، وهما مما يحبهما الله الآيتان من آخر البقرة» وأخرج الطبراني بسند جيد، عن شدّاد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، لا يقرآن في دار ثلاث ليال، فيقربها شيطان» وأخرج ابن عدي، عن ابن مسعود الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنزل الله آيتين من كنوز الجنة، كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة، من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل» وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة، أو آية الكرسي ضحك وقال: «إنهما من كنز تحت العرش». وأخرج ابن مردويه، عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطيت فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش» وأخرج مسلم، والنسائي، واللفظ له، عن ابن عباس قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً، فرفع جبريل بصره فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته. فهذه ثلاثة عشر حديثاً في فضل هاتين الآيتين مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى في فضلهما من غير المرفوع، عن عمر، وعليّ، وابن مسعود، وأبي مسعود، وكعب الأحبار، والحسن، وأبي قلابة، وفي قول النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يغني عن غيره.
{الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)} قرأ الحسن، وعمرو بن عبيد، وعاصم بن أبي النجود، وأبو جعفر الرواسي «الم * الله» بقطع ألف الوصل على تقدير الوقف على {الم} كما يقدرون الوقف على أسماء الأعداد نحو واحد اثنان ثلاثة أربعة مع وصلهم. قال الأخفش: ويجوز «الم * الله» بكسر الهمزة لالتقاء الساكنين. قال الزجاج: هذا خطأ، ولا تقوله العرب لثقله. وقد ذكر سيبويه في الكتاب أن فواتح السور التي لم تكن موازنة لمفرد طريق التلفظ بها الحكاية فقط ساكنة الأعجاز على الوقف، سواء جعلت أسماء، أو مسرودة على نمط التعديد، وإن لزمها التقاء الساكنين لما أنه مغتفر في باب الوقف، فحق هذه الفاتحة أن يوقف عليها، ثم يبدأ بما بعدها، كما فعله الحسن، ومن معه في قراءتهم المحكية سابقاً. وأما فتح الميم على القراءة المشهورة، فوجهه ما روى عن سيبويه أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين. وقال الكسائي: حروف التهجي إذا لقيتها ألف وصل، فحذفت الألف، وحركت الميم بحركة الألف، وكذا قال الفراء. وهذه الفواتح إن جعلت مسرودة على نمط التعديد، فلا محل لها من الإعراب، وإن جعلت أسماء للسورة، فمحلها إما الرفع على أنها أخبار لمبتدآت مقدرة قبلها، أو النصب على تقدير أفعال يقتضيها المقام كاذكر، أو اقرأ، أو نحوهما، وقد تقدم في أوائل سورة البقرة ما يغني عن الإعادة. وقوله: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} مبتدأ، وخبر، والجملة مستأنفة، أي: هو المستحق للعبودية. و{الحيّ القيوم}: خبران آخران للاسم الشريف، أو خبران لمبتدأ محذوف، أي: هو الحي القيوم، وقيل: إنهما صفتان للمبتدإ الأول، أو بدلان منه، أو من الخبر، وقد تقدّم تفسير الحيّ والقيوم. وقرأ جماعة من الصحابة «القيام» عمر، وأبيّ بن كعب، وابن مسعود. قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} أي: القرآن، وقدم الظرف على المفعول به للاعتناء بالمنزل عليه صلى الله عليه وسلم وهي: إما جملة مستأنفة، أو خبر آخر للمبتدأ الأوّل. قوله: {بالحق} أي: بالصدق، وقيل: بالحجة الغالبة، وهو في محل نصب على الحال. وقوله: {مُصَدّقاً} حال آخر من الكتاب مؤكدة؛ لأنه لا يكون إلا مصدقاً، فلا تكون الحال منتقلة أصلاً، وبهذا قال الجمهور، وجوّز بعضهم الانتقال على معنى أنه مصدق لنفسه ولغيره. وقوله: {لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: من الكتب المنزلة، وهو متعلق بقوله: {مصدقاً}، واللام للتقوية. قوله: {وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل} هذه الجملة في حكم البيان لقوله: لما بين يديه. وإنما قال هنا {أنزل}، وفيما تقدّم {نزّل}: لأن القرآن نزل منجماً، والكتابان نزلا دفعة واحدة، ولم يذكر في الكتابين من أنزلا عليه، وذكر فيما تقدّم أن الكتاب نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن القصد هنا ليس إلا إلى ذكر الكتابين لا ذكر من نزلا عليه. وقوله: {مِن قَبْلُ} أي: أنزل التوراة، والإنجيل من قبل تنزيل الكتاب. وقوله: {هُدًى لّلنَّاسِ} إما حال من الكتابين، أو علة للإنزال. والمراد بالناس: أهل الكتابين، أو ما هو أعمّ؛ لأن هذه الأمة متعبدة بما لم ينسخ من الشرائع. قال ابن فورك: هدى للناس المتقين، كما قال في البقرة: {هدى للمتقين} [البقرة: 2]، قوله: {وَأَنزَلَ الفرقان} أي: الفارق بين الحق، والباطل، وهو القرآن، وكرر ذكره تشريفاً له مع ما يشتمل عليه هذا الذكر الآخر من الوصف له بأنه يفرق بين الحق، والباطل، وذكر التنزيل أولاً، والإنزال ثانياً لكونه جامعاً بين الوصفين، فإنه أنزل إلى سماء الدنيا جملة، ثم نزل منها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم مفرّقاً منجماً على حسب الحوادث كما سبق. وقيل: أراد بالفرقان جميع الكتب المنزلة من الله تعالى على رسله، وقيل: أراد الزبور لاشتماله على المواعظ الحسنة، وقوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله} أي: بما يصدق عليه أنه آية من الكتب المنزلة وغيرها، أو بما في الكتب المنزلة وغيرها أو بما في الكتب المنزلة المذكورة على وضع آيات الله موضع الضمير العائد إليها، وفيه بيان الأمر الذي استحقوا به الكفر {لَهُمْ} بسبب هذا الكفر {عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي: عظيم {والله عَزِيزٌ} لا يغالبه مغالب {ذُو انتقام} عظيم، والنقمة: السطوة، يقال: انتقم منه: إذا عاقبه بسبب ذنب قد تقدّم منه. قوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَئ فِي الأرض وَلاَ فِى السماء} هذه الجملة استئنافية لبيان سعة علمه، وإحاطته بالمعلومات، بما في الأرض والسماء، مع كونها أوسع من ذلك، لقصور عباده عن العلم بما سواهما من أمكنة مخلوقاته، وسائر معلوماته، ومن جملة ما لا يخفى عليه إيمان من آمن من خلقه، وكفر من كفر. قوله: {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} أصل اشتقاق الصورة من صاره إلى كذا أي: أماله إليه، فالصورة مائلة إلى شبه وهيئة، وأصل الرحم من الرحمة؛ لأنه مما يتراحم به، وهذه الجملة مستأنفة مشتملة على بيان إحاطة علمه، وأن من جملة معلوماته ما لا يدخل تحت الوجود، وهو: تصوير عباده في أرحام أمهاتهم من نطف آبائهم كيف يشاء من حسن، وقبيح، وأسود، وأبيض، وطويل، وقصير. و{كيف} معمول يشاء، والجملة حالية. وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن جعفر بن محمد بن الزبير قال: «قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران ستون راكباً، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب، وعبد المسيح، والسيد، وهو الأيهم، ثم ذكروا القصة في الكلام الذي دار بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الله أنزل في ذلك صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع، فذكر وفد نجران، ومخاصمتهم للنبي صلى الله عليه وسلم في عيسى عليه السلام، وأن الله أنزل: {الم * الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحى القيوم}. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد في قوله: {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} قال: لما قبله من كتاب، أو رسول. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن نحوه. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة نحوه، وقال في قوله: {وَأَنزَلَ الفرقان} هو القرآن فرق بين الحق، والباطل، فأحل فيه حلاله، وحرم فيه حرامه، وشرع فيه شرائعه، وحد فيه حدوده، وفرض فيه فرائضه، وبين فيه بيانه، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته. وأخرج ابن جرير، عن محمد بن جعفر بن الزبير في قوله: {وَأَنزَلَ الفرقان} أي: الفصل بين الحق، والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى، وغيره، وقوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بأيات الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} أي: إن الله ينتقم ممن كفر بآياته بعد علمه بها، ومعرفته بما جاء منه فيها. وفي قوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَئ فِي الأرض وَلاَ فِى السماء} أي: قد علم ما يريدون، وما يكيدون، وما يضاهون بقولهم في عيسى إذ جعلوه رباً وإلهاً، وعندهم من علمه غير ذلك غرّة بالله، وكفراً به {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} قد كان عيسى ممن صوّر في الأرحام لا يدفعون ذلك، ولا ينكرونه، كما صوّر غيره من بني آدم، فكيف يكون إلهاً، وقد كان بذلك المنزل؟! وأخرج ابن المنذر، عن ابن مسعود في قوله: {يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} قال: ذكوراً، وإناثاً. وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، وابن مسعود، وناس من الصحابة في قوله: {يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} قال: إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يوماً، ثم تكون علقة أربعين يوماً، ثم تكون مضغة أربعين يوماً، فإذا بلغ أن يخلق بعث الله ملكاً يصوّرها، فيأتي الملك بتراب بين أصبعيه، فيخلط منه المضغة، ثم يعجنه بها، ثم يصوّر، كما يؤمر فيقول: أذكر أم أنثى، أشقيّ أم سعيد، وما رزقه، وما عمره؟ وما أثره، وما مصائبه؟ فيقول الله، ويكتب الملك، فإذا مات ذلك الجسد دفن حيث أخذ ذلك التراب. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} قال: من ذكر، وأنثى، وأحمر، وأسود، وتامّ الخلق، وغير تام الخلق.
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)} {الكتاب} هو: القرآن، فاللام للعهد، وقدم الظرف، وهو {عليك} لما يفيده من الاختصاص. وقوله: {مِنْهُ آيات محكمات} الموافق لقواعد العربية أن يكون الظرف خبراً مقدّماً، والأولى بالمعنى أن يكون مبتدأ تقديره: من الكتاب آيات بينات، على نحو ما تقدّم في قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ} [البقرة: 8] وإنما كان أولى؛ لأن المقصود انقسام الكتاب إلى القسمين المذكورين لا مجرّد الإخبار عنهما بأنهما من الكتاب، والجملة حالية في محل نصب، أو مستأنفة لا محل لها. وقد اختلف العلماء في تفسير المحكمات، والمتشابهات على أقوال: فقيل: إن المحكم: ما عرف تأويله، وفهم معناه، وتفسيره، والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل؛ ومن القائلين بهذا جابر بن عبد الله، والشعبي، وسفيان الثوري، قالوا: وذلك بجر الحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل: المحكم: ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً، فإذا ردّت إلى وجه واحد، وأبطل الباقي صار المتشابه محكماً، وقيل: إن المحكم ناسخه، وحرامه، وحلاله، وفرائضه، وما نؤمن به، ونعمل عليه، والمتشابه: منسوخه، وأمثاله، وأقسامه وما نؤمن به، ولا نعمل به. روى هذا عن ابن عباس، وقيل: المحكم: الناسخ، والمتشابه: المنسوخ، روي عن ابن مسعود، وقتادة، والربيع، والضحاك؛ وقيل: المحكم: الذي ليس فيه تصريف، ولا تحريف عما وضع له، والمتشابه: ما فيه تصريف، وتحريف، وتأويل قاله مجاهد، وابن إسحاق. قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال، وقيل: المحكم: ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره، والمتشابه: ما يرجع فيه إلى غيره. قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل في المحكمات، والمتشابهات. قال القرطبي ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية، وهو الجاري على وضع اللسان، وذلك أن المحكم اسم مفعول من أحكم، والإحكام: الإتقان، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه، ولا تردّد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته، وإتقان تركيبها، ومتى اختلّ أحد الأمرين جاء التشابه، والإشكال. وقال ابن خويز منداد: للمتشابه وجوه: ما اختلف فيه العلماء: أيّ الآيتين نسخت الأخرى، كما في الحامل المتوفى عنها زوجها، فإن من الصحابة من قال: إن آية وضع الحمل نسخت آية الأربعة الأشهر، والعشر، ومنهم من قال بالعكس. وكاختلافهم في الوصية للوارث، وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ، ولم توجد شرائطه، وكتعارض الأخبار، وتعارض الأقيسة، هذا معنى كلامه. والأولى أن يقال: إن المحكم هو: الواضح المعنى الظاهر الدلالة، إما باعتبار نفسه، أو باعتبار غيره، والمتشابه ما لا يتضح معناه، أو لا تظهر دلالته لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار غيره. وإذا عرفت هذا عرفت أن هذا الاختلاف الذي قدّمناه ليس كما ينبغي، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته، وعرفوا المتشابه بما يقابلها. وبيان ذلك أن أهل القول الأول جعلوا المحكم ما وجد إلى علمه سبيل، والمتشابه ما لا سبيل إلى علمه، ولا شك أن مفهوم المحكم، والمتشابه أوسع دائرة مما ذكروه، فإن مجرد الخفاء، أو عدم الظهور، أو الإحتمال، أو التردّد يوجب التشابه؛ وأهل القول الثاني: خصوا المحكم بما ليس فيه احتمال، والمتشابه بما فيه احتمال، ولا شك أن هذا بعض أوصاف المحكم، والمتشابه لا كلها، وهكذا أهل القول الثالث، فإنهم خصوا كل واحد من القسمين بتلك الأوصاف المعينة دون غيرها؛ وأهل القول الرابع خصوا كل واحد منهما ببعض الأوصاف التي ذكرها أهل القول الثالث، والأمر أوسع مما قالوه جميعاً، وأهل القول الخامس خصوا المحكم بوصف عدم التصريف، والتحريف، وجعلوا المتشابه مقابله، وأهملوا ما هو أهمّ من ذلك مما لا سبيل إلى علمه من دون تصريف، وتحريف كفواتح السور المقطعة، وأهل القول السادس خصوا المحكم بما يقوم بنفسه، والمتشابه بما لا يقوم بها، وأن هذا هو بعض أوصافهما، وصاحب القول السابع، وهو ابن خويز منداد عمد إلى صورة الوفاق، فجعلها محكماً، وإلى صورة الخلاف، والتعارض، فجعلها متشابهاً، فأهمل ما هو أخص أوصاف كل واحد منهما من كونه باعتبار نفسه مفهوم المعنى، أو غير مفهوم. قوله: {هُنَّ أُمُّ الكتاب} أي: أصله الذي يعتمد عليه، ويردّ ما خالفه إليه، وهذه الجملة صفة لما قبلها. قوله: {وَأُخَرُ متشابهات} وصف لمحذوف مقدر، أي: وآيات أخر متشابهات، وهي جمع أخرى، وإنما لم ينصرف؛ لأنه عدل بها عن الآخر؛ لأن أصلها أن يكون كذلك. وقال أبو عبيد: لم ينصرف؛ لأن واحدها لا ينصرف في معرفة، ولا نكرة، وأنكر ذلك المبرّد. وقال الكسائي: لم تنصرف؛ لأنها صفة، وأنكره أيضاً المبرّد. وقال سيبويه: لا يجوز أن يكون {أخر} معدولة عن الألف، واللام؛ لأنها لو كانت معدولة عنها لكان معرفة، ألا ترى أن «سحر» معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة. قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} الزيغ: الميل: ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار؛ ويقال: زاغ يزيغ زيغاً: إذا ترك القصد، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] وهذه الآية تعمّ كل طائفة من الطوائف الخارجة عن الحق. وسبب النزول نصارى نجران، كما تقدّم، وسيأتي. قوله: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ} أي: يتعلقون بالمتشابه من الكتاب، فيشككون به على المؤمنين، ويجعلونه دليلاً على ما هم فيه من البدعة المائلة عن الحق، كما تجده في كل طائفة من طوائف البدعة، فإنهم يتلاعبون بكتاب الله تلاعباً شديداً، ويوردون منه لتنفيق جهلهم ما ليس من الدلالة في شيء. قوله: {ابتغاء الفتنة} أي: طلباً منهم لفتنة الناس في دينهم، والتلبيس عليهم، وإفساد ذات بينهم {وابتغاء تَأْوِيلِهِ} أي: طلباً لتأويله على الوجه الذي يريدونه، ويوافق مذاهبهم الفاسدة. قال الزجاج: معنى ابتغائهم تأويله: أنهم طلبوا تأويل بعثهم، وإحيائهم، فأعلم الله عز وجلّ أن تأويل ذلك، ووقته لا يعلمه إلا الله. قال: والدليل على ذلك قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53] أي: يوم يرون ما يوعدون من البعث، والنشور، والعذاب {يَقُولُ الذين نَسُوهُ} [الأعراف: 53] أي تركوه {قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق} [الأعراف: 53] أي: قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل. قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} التأويل يكون بمعنى التفسير، كقولهم: تأويل هذه الكلمة على كذا، أي: تفسيرها، ويكون بمعنى ما يئول الأمر إليه، واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يئول إليه، أي: صار، وأوّلته تأويلاً، أي: صيرته، وهذه الجملة حالية، أي: يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله، والحال أن ما يعلم تأويله إلا الله. وقد اختلف أهل العلم في قوله: {والرسخون فِي العلم} هل هو كلام مقطوع، عما قبله، أو معطوف على ما قبله؟ فتكون الواو للجمع، فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع عما قبله، وأن الكلام تمّ عند قوله: {إِلاَّ الله} هذا قول ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وعروة بن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وأبي الشعثاء، وأبي نهيك، وغيرهم، وهو مذهب الكسائي، والفراء، والأخفش، وأبي عبيد، وحكاه ابن جرير الطبري، عن مالك، واختاره، وحكاه الخطابي، عن ابن مسعود، وأبيّ بن كعب قال: وإنما روي عن مجاهد أنه نسق الراسخين على ما قبله، وزعم أنهم يعلمونه، قال: واحتج له بعض أهل اللغة، فقال: معناه: والراسخون في العلم يعلمونه قائلين {آمنا به} وزعم أن موضع {يَقُولُونَ} نصب على الحال، وعامة أهل اللغة ينكرونه، ويستبعدونه؛ لأن العرب لا تضمر الفعل، والمفعول معاً، ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل، فإذا لم يظهر فعل لم يكن حالاً، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال: عبْد الله راكباً، يعني: أقبل عبد الله راكباً، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله: عبد الله يتكلم يصلح بين الناس، فكان يصلح حالاً كقول الشاعر: أنشدنيه أبو عمرو. قال: أنشدنا أبو العباس ثعلب: أرسَلْتُ فِيها رَجلاً لَكُالِكا *** يَقْصُر يَمْشِي وَيَطول بَارِكاً فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده. وأيضاً، فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئاً عن الخلق، وينسبه لنفسه، فيكون له في ذلك شريك، ألا ترى قوله عزّ وجلّ: {قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السموات والأرض الغيب إِلاَّ الله} [النمل: 65]، وقوله: {لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187]، وقوله: {كُلُّ شَئ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه به لا يشركه فيه غيره، وكذلك قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} ولو كانت الواو في قوله: {والرسخون} للنسق لم يكن لقوله: {كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} فائدة. انتهى. قال القرطبي: ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره. فقد روي عن ابن عباس: أن الراسخين معطوف على اسم الله عزّ وجلّ، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به. وقاله الربيع، ومحمد بن جعفر بن الزبير، والقاسم بن محمد، وغيرهم، و{يَقُولُونَ} على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخون كما قال: الرِيحُ يَبْكِي شَجْوه *** والبرقُ يَلْمَعُ في الغَمَامَهْ وهذا البيت يحتمل المعنيين، فيجوز أن يكون، و«البرق» مبتدأ، والخبر «يلمع» على التأويل الأوّل، فيكون مقطوعاً مما قبله، ويجوز أن يكون معطوفاً على الريح، ويلمع في موضع الحال على التأويل الثاني أي: لامعاً. انتهى. ولا يخفاك أن ما قاله الخطابي في وجه امتناع كون قوله: {يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} حالاً مع أن العرب لا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل إلى آخر كلامه لا يتم إلا على فرض أنه لا فعل هنا، وليس الأمر كذلك، فالفعل مذكور، وهو قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ} ولكنه جاء الحال من المعطوف، وهو قوله: {والرسخون} دون المعطوف عليه، وهو قوله: {إِلاَّ الله} وذلك جائز في اللغة العربية. وقد جاء مثله في الكتاب العزيز. ومنه قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاء المهاجرين الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن ديارهم} [الحشر: 8] إلى قوله: {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا} الآية [الحشر: 10]، وكقوله: {وَجَاء رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] أي: وجاءت الملائكة صفا صفا، ولكن ها هنا مانع آخر من جعل ذلك حالاً، وهو أن تقييد علمهم بتأويله بحال كونهم قائلين آمنا به ليس بصحيح، فإن الراسخين في العلم على القول بصحة العطف على الإسم الشريف يعلمونه في كل حال من الأحوال لا في هذه الحالة الخاصة، فاقتضى هذا أن جعل قوله: {يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} حالاً غير صحيح، فتعين المصير إلى الاستئناف والجزم بأن قوله: {والرسخون فِي العلم} مبتدأ خبره {يَقُولُونَ}، ومن جملة ما استدل به القائلون بالعطف أن الله سبحانه وصفهم بالرسوخ في العلم، فكيف يمدحهم، وهم لا يعلمون ذلك؟ ويجاب عن هذا: بأن تركهم لطلب علم ما لم يأذن الله به، ولا جعل لخلقه إلى علمه سبيلاً هو من رسوخهم؛ لأنهم علموا أن ذلك مما استأثر الله بعلمه، وأن الذين يتبعونه هم الذين في قلوبهم زيغ، وناهيك بهذا من رسوخ. وأصل الرسوخ في لغة العرب: الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ، وأصله في الأجرام أن ترسخ الخيل، أو الشجر في الأرض، ومنه قول الشاعر: لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الصَّدْر مِنى مَوَدةٌ *** لِلَيْلى أبَتْ آياتُها أن تُغيَّرا فهؤلاء ثبتوا في امتثال ما جاءهم عن الله من ترك اتباع المتشابه، وإرجاع علمه إلى الله سبحانه. ومن أهل العلم من توسط بين المقامين فقال: التأويل يطلق ويراد به في القرآن شيئان: أحدهما التأويل بمعنى حقيقة الشيء، وما يئول أمره إليه، ومنه قوله: {هذا تَأْوِيلُ رؤياى} [يوسف: 100]، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53] أي: حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا، فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور، وكنهها لا يعلمه إلا الله عزّ وجلّ، ويكون قوله: {والرسخون فِي العلم} مبتدأ، و{يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} خبره. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر، وهو: التفسير، والبيان، والتعبير عن الشيء، كقوله: {نَبّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [يوسف: 36] أي بتفسيره فالوقف على {والرسخون فِي العلم} لأنهم يعلمون، ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا، فيكون {يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} حالاً منهم، ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون تأويله، وأطنب في ذلك، وهكذا جماعة من محققي المفسرين رجحوا ذلك. قال القرطبي: قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وهو: الصحيح، فإن تسميتهم راسخين تقضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع، لكن المتشابه يتنوع، فمنه ما لا يعلم ألبتة كأمر الروح، والساعة مما استأثر الله بعلمه، وهذا لا يتعاطى علمه أحد، فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه، فإنما أراد هذا النوع. وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة، فيتأول، ويعلم تأويله المستقيم، ويزال ما فيه من تأويل غير مستقيم. انتهى. واعلم أن هذا الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى المحكم، والمتشابه؛ وقد قدّمنا لك ما هو الصواب في تحقيقهما، ونزيدك ها هنا إيضاحاً، وبياناً، فنقول: إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدّمناه فواتح السور، فإنها غير متضحة المعنى، ولا ظاهرة الدلالة، لا بالنسبة إلى أنفسها؛ لأنه لا يدري من يعلم بلغة العرب، ويعرف عرف الشرع ما معنى آلم، آلمر، حم، طس، طسما ونحوها؛ لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب، ولا من كلام الشرع، فهي غير متضحة المعنى، لا باعتبارها نفسها، ولا باعتبار أمر آخر يفسرها، ويوضحها، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم، والألفاظ الغريبة التي لا يوجد في لغة العرب، ولا في عرف الشرع ما يوضحها، وهكذا ما استأثر الله بعلمه كالروح، وما في قوله: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} إلى الآخر الآية [لقمان: 34]، ونحو ذلك، وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار غيره، كورود الشيء محتملاً لأمرين احتمالاً لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضاً كلياً بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر، لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار أمر آخر يرجحه. وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفاً في لغة العرب، أو في عرف الشرع، أو باعتبار غيره، وذلك كالأمور المجملة التي ورد بيانها في موضع آخر من الكتاب العزيز، أو في السنة المطهرة، أو الأمور التي تعارضت دلالتها، ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب، أو السنة، أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة عند أهل الإنصاف، فلا شك، ولا ريب أن هذه من المحكم لا من المتشابه، ومن زعم أنها من المتشابه، فقد اشتبه عليه الصواب، فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضايق، ومزالق وقعت للناس في هذا المقام حتى صارت كل طائفة تسمى ما دل لما ذهب إليه محكماً، وما دل على ما يذهب إليه من يخالفها متشابهاً: سيما أهل علم الكلام، ومن أنكر هذا، فعليه بمؤلفاتهم. واعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على أنه جميعه محكم، ولكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية بل بمعنى آخر، ومن ذلك قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءاياته} [هود: 1] وقوله: {تِلْكَ ءايات الكتاب الحكيم} [يونس: 1] والمراد بالمحكم بهذا المعنى: أنه صحيح الألفاظ قويم المعاني فائق في البلاغة، والفصاحة على كل كلام. وورد أيضاً ما يدل على أنه جميعه متشابه لكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها بل بمعنى آخر، ومنه قوله تعالى: {كتابا متشابها} [الزمر: 23] والمراد بالمتشابه بهذا المعنى: أنه يشبه بعضه بعضاً في الصحة، والفصاحة، والحسن، والبلاغة. وقد ذكر أهل العلم لورود المتشابه في القرآن فوائد: منها: أنه يكون في الوصول إلى الحق مع وجودها فيه مزيد صعوبة، ومشقة، وذلك يوجب مزيد الثواب للمستخرجين للحق، وهم الأئمة المجتهدون، وقد ذكر الزمخشري، والرازي، وغيرهما وجوهاً هذا أحسنها، وبقيتها لا تستحق الذكر ها هنا. قوله: {كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} فيه ضمير مقدر عائد على مسمى المحكم، والمتشابه، أي: كله، أو المحذوف غير ضمير، أي: كل واحد منهما، وهذا من تمام المقول المذكور قبله. وقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} أي: العقول الخالصة: وهم الراسخون في العلم، الواقفون عند متشابهه، العالمون بمحكمه العاملون بما أرشدهم الله إليه في هذه الآية. وقوله: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ} الخ من تمام ما يقوله الراسخون، أي: يقولون آمنا به كل من عند ربنا، ويقولون: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} قال ابن كيسان: سألوا ألا يزيغوا، فتزيغ قلوبهم نحو قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] كأنهم لما سمعوا قوله سبحانه: {وَأَمَّا الذين فِى قُلُوبِهِم زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ} قالوا: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} باتباع المتشابه: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} إلى الحق بما أذنت لنا من العمل بالآيات المحكمات، والظرف، وهو قوله: {بعد} منتصب بقوله: لا تزغ. قوله: {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} أي: كائنة من عندك، و«من» لابتداء الغاية و«لدن» بفتح اللام، وضم الدال، وسكون النون، وفيه لغات أخر هذه أفصحها، وهو ظرف مكان، وقد يضاف إلى الزمان، وتنكير {رحمة} للتعظيم أي: رحمة عظيمة واسعة. وقوله: {إِنَّكَ أَنتَ الوهاب} تعليل للسؤال، أو لإعطاء المسئول. وقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس} أي: باعثهم ومحييهم بعد تفرّقهم {لِيَوْمٍ} هو يوم القيامة أي: لحساب يوم، أو لجزاء يوم، على تقدير حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه. قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} أي: في وقوعه ووقوع ما فيه من الحساب، والجزاء، وقد تقدم تفسير الريب، وجملة قوله: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} للتعليل لمضمون ما قبلها، أي: أن الوفاء بالوعد شأن الإله سبحانه، وخلفه يخالف الألوهية، كما أنها تنافيه، وتباينه. وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: المحكمات ناسخه، وحلاله، وحرامه، وحدوده، وفرائضه، وما نؤمن به، ونعمل به. والمتشابهات منسوخه، ومقدّمه، ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وما نؤمن به، ولا نعمل به. وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن ابن عباس قال في قوله: {مِنْهُ آيات محكمات} قال: الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات: {قُلْ تَعَالَوْاْ} [الأنعام: 151] والآيتان بعدها. وفي رواية عنه أخرجها عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في قوله: {آيات محكمات} قال: من هنا {قُلْ تَعَالَوْاْ} إلى ثلاث آيات، ومن هنا {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} [الإسراء: 23] إلى ثلاث آيات بعدها. وأقول: رحم الله ابن عباس ما أقل جدوى هذا الكلام المنقول عنه. فإن تعيين ثلاث آيات، أو عشر، أو مائة من جميع آيات القرآن، ووصفها بأنها محكمة ليس تحته من الفائدة شيء، فالمحكمات هي أكثر القرآن على جميع الأقوال حتى على قوله المنقول عنه قريباً من أن المحكمات ناسخه، وحلاله الخ، فما معنى تعيين تلك الآيات من آخر سورة الأنعام؟. وأخرج عبد بن حميد، عنه قال: المحكمات: الحلال والحرام، وللسلف أقوال كثيرة هي راجعة إلى ما قدّمنا في أوّل هذا البحث. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} يعني: أهل الشك، فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويلبسون، فلبس الله عليهم: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} قال: تأويله يوم القيامة لا يعلمه إلا الله. وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود {زَيْغٌ} قال: شك. وفي الصحيحين، وغيرهما، عن عائشة قالت «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم {هُوَ الذى أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} إلى قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} إلى قوله: {أُوْلُواْ الالباب} قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عني، فاحذروهم " وفي لفظ «فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذي سماهم الله، فاحذروهم» هذا لفظ البخاري، ولفظ ابن جرير، وغيره «فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، والذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فلا تجالسوهم» وأخرج عبد بن حميد، وعبد الرزاق، وأحمد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ} قال: هم الخوارج. وأخرج ابن جرير، والحاكم وصححه، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان الكتاب الأوّل ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن على سبعة أحرف: زاجر، وآمر، وحلال وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا " وأخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن مسعود موقوفاً. وأخرج الطبراني، عن عمر بن أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود، فذكر نحوه، وأخرج البخاري في التاريخ عن علي مرفوعاً بإسناد ضعيف نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي داود في المصاحف، عن ابن مسعود نحوه. وأخرج ابن جرير، وأبو يعلى، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر، ما عرفتم، فاعملوا به، وما جهلتم منه، فردوه إلى عالمه " وإسناده صحيح. وأخرج البيهقي في الشعب، عن أبي هريرة مرفوعاً، وفيه: " واتبعوا المحكم وآمنوا بالمتشابه " وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، عن طاوس قال: كان ابن عباس يقرؤها: " وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله وَيَقُولُ الراسخون فِى العلم آمنا بِهِ " وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن الأعمش قال في قراءة عبد الله: وإن حقيقة تأويله إلا عند الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا به. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي الشعثاء، وأبي نهيك قال: إنكم تصلون هذه الآية، وهي مقطوعة: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والرسخون فِي العلم يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا} فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا. وأخرج ابن جرير، عن عروة. قال: الراسخون في العلم لا يعلمون تأويله، ولكنهم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن عمر بن عبد العزيز نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، عن أبيّ قال: كتاب الله ما استبان، فاعمل به، وما اشتبه عليك، فآمِن به، وكله إلى عالمه. وأخرج أيضاً، عن ابن مسعود قال: إن للقرآن مناراً، كمنار الطريق، فما عرفتم، فتمسكوا به، وما اشتبه عليكم، فذروه. وأخرج أيضاً، عن معاذ نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس قال: تفسير القرآن على أربعة وجوه: تفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعذر الناس بجهالته من حلال، أو حرام، وتفسير تعرفه العرب بلغتها، وتفسير لا يعلم تأويله إلا الله، من ادعى علمه، فهو كذاب. وأخرج ابن جرير عنه قال: أنزل القرآن على سبعة أحرف: حلال وحرام لا يعذر أحد بالجهالة به، وتفسير تفسره العرب، وتفسير تفسره العلماء، ومتشابه لا يعلمه إلا الله، ومن ادّعى علمه سوى الله، فهو كاذب. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه قال: أنا ممن يعلم تأويله. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عطية العوفي عنه في قوله: {يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} نؤمن بالمحكم، وندين به، ونؤمن بالمتشابه، ولا ندين به، وهو من عند الله كله. وأخرج الدارمي في مسنده، ونصر المقدسي في الحجة، عن سليمان بن يسار: أن رجلاً يقال له ضبيع قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن. فأرسل إليه عمر، وقد أعدّ له عراجين النخل، فقال: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله ضبيع، فقال: وأنا عبد الله عمر، فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين، فضربه حتى دمى رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي. وأخرجه الدارمي أيضاً من وجه آخر، وفيه: أنه ضربه ثلاث مرات يتركه في كل مرة حتى يبرأ، ثم يضربه. وأخرج أصل القصة ابن عساكر في تاريخه، عن أنس. وأخرج الدارمي، وابن عساكر: أن عمر كتب إلى أهل البصرة أن لا يجالسوا ضبيعاً، وقد أخرج هذه القصة جماعة. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، عن أنس، وأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع، وأبي الدرداء؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم؟ فقال: " من برّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن عفّ بطنه، وفرجه، فذلك من الراسخين في العلم " وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن يزيد الأزدي عن أنس مرفوعاً نحوه. وأخرج أبو داود، والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الجدال في القرآن كفر " وأخرج نصر المقدسي في الحجة، عن ابن عمر قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن وراء حجرته قوم يتجادلون بالقرآن، فخرج محمرة وجنتاه، كأنما يقطران دماً، فقال: " يا قوم لا تجادلوا بالقرآن، فإنما ضل من كان قبلكم بجدالهم، إن القرآن لم ينزل، ليكذب بعضه بعضاً، ولكن نزل ليصدق بعضه بعضاً، فما كان من محكمه، فاعملوا به، وما كان من متشابهه، فآمنوا به " وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أم سلمة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول " يا مقلب القلوب ثبت قلبي علي دينك، ثم قرأ: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} الآية " وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والترمذي، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه عنها مرفوعاً نحوه بأطول منه. وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وابن مردويه، عن عائشة مرفوعاً نحوه. وقد ورد نحوه من طرق أخر. وأخرج ابن النجار في تاريخه في قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ} الآية. عن جعفر بن محمد الخلدي قال: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن: " من قرأ هذه الآية على شيء ضاع منه ردّه الله عليه، ويقول بعد قراءتها: يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيني وبين مالي إنك على كل شيء قدير ".
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)} المراد ب {الذين كفروا}: جنس الكفرة. وقيل: وفد نجران، وقيل: قريظة، وقيل: النضير، وقيل: مشركو العرب. وقرأ السلمي: «لن يُغني» بالتحتية، وقرأ الحسن بكون الياء الآخرة تخفيفاً. قوله: {مِنَ الله شَيْئاً} أي: من عذابه شيئاً من الإغناء، وقيل: إن كلمة من بمعنى عند، أي: لا تغني عند الله شيئاً قاله أبو عبيد، وقيل: هي بمعنى بدل. والمعنى: بدل رحمة الله، وهو بعيد. قوله: {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النار} الوقود: اسم للحطب، وقد تقدم الكلام عليه في سورة البقرة، أي: هم حطب جهنم الذي تسعر به، وهم: مبتدأ، ووقود خبره، والجملة خبر أولئك، أو هم ضمير فصل، وعلى التقديرين، فالجملة مستأنفة مقرّرة لقوله: {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم} الآية. وقرأ الحسن، ومجاهد، وطلحة بن مصرف «وَقُودُ» بضم الواو، وهو مصدر، وكذلك الوقود بفتح الواو في قراءة الجمهور يحتمل أن يكون اسماً للحطب، كما تقدم، فلا يحتاج إلى تقدير، ويحتمل أن يكون مصدراً؛ لأنه من المصادر التي تأتي على وزن الفعول، فتحتاج إلى تقدير، أي: هم أهل، وقود النار. قوله: {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ} الدأب: الاجتهاد، يقال دأب الرجل في عمله يدأب دأباً ودءوباً: إذا جدّ، واجتهد، والدائبان الليل، والنهار، والدأب: العادة، والشأن، ومنه قول امرئ القيس: كدأبك من أمِّ الحُوَيِرِثِ قَبْلَها *** وَجَارَتها أمِّ الرَّبابِ بِمَأسَلِ والمراد هنا: كعادة آل فرعون، وشأنهم، وحالهم، واختلفوا في الكاف، فقيل: هي في موضع رفع تقديره دأبهم كدأب آل فرعون مع موسى. وقال الفراء: إن المعنى: كفرت العرب، ككفر آل فرعون. قال النحاس: لا يجوز أن تكون الكاف متعلقة بكفروا، لأن كفروا داخلة في الصلة، وقيل: هي متعلقة بأخذهم الله، أي: أخذهم أخذه، كما أخذ آل فرعون، وقيل: هي متعلقة ب {لن تغني}، أي: لم تغن عنهم غناء، كما لم تغن عن آل فرعون، وقيل: إن العامل فعل مقدر من لفظ الوقود، ويكون التشبيه في نفس الإحراق. قالوا: ويؤيده قوله تعالى: {اأدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 46]. {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر: 46]، والقول الأوّل هو الذي قاله جمهور المحققين، ومنهم الأزهري. قوله: {والذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة، أي: وكدأب الذين من قبلهم. قوله: {كَذَّبُواْ بأياتنا فَأَخَذَهُمُ الله} يحتمل أن يريد الآيات المتلوّة، ويحتمل أن يريد الآيات المنصوبة للدلالة على الوحدانية، ويصح إرادة الجميع. والجملة بيان، وتفسير لدأبهم، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من آل فرعون والذين من قبلهم على إضمار قد: أي دأب هؤلاء كدأب أولئك قد كذبوا الخ. وقوله {بِذُنُوبِهِمْ} أي بسائر ذنوبهم التي من جملتها تكذيبهم. قوله: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} قيل: هم اليهود، وقيل: هم مشركو مكة، وسيأتي بيان سبب نزول الآية. وقوله: {سَتُغْلَبُونَ} قريء بالفوقية، والتحتية، وكذلك {تُحْشَرُونَ}. وقد صدق الله، وعده بقتل بني قريظة، وإجلاء بني النضير، وفتح خيبر، وضرب الجزية على سائر اليهود، ولله الحمد. قوله: {وَبِئْسَ المهاد} يحتمل أن يكون من تمام القول الذي أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، ويحتمل أن تكون الجملة مستأنفة تهويلاً، وتفظيعاً. قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ} أي: علامة عظيمة دالة على صدق ما أقول لكم، وهذه الجملة جواب قسم محذوف، وهي: من تمام القول المأمور به لتقرير مضمون ما قبله، ولم يقل " كانت "؛ لأن التأنيث غير حقيقي. وقال الفراء: إنه ذكر الفعل لأجل الفصل بينه، وبين الإسم بقوله: {لَكُمْ}. والمراد بالفئتين: المسلمون، والمشركون لما الْتقوا يوم بدر. قوله: {فِئَةٌ تقاتل فِى سَبِيلِ الله} قراءة الجمهور برفع {فئة}. وقرأ الحسن، ومجاهد «فئة» و«كافرة» بالخفض، فالرفع على الخبرية لمبتدأ محذوف، أي: إحداهما فئة. وقوله: {تقاتل} في محل رفع على الصفة، والجرّ على البدل من قوله: {فِئَتَيْنِ}. وقوله: {وأخرى} أي: وفئة أخرى كافرة. وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما. قال ثعلب: هو على الحال، أي: التقتا مختلفتين، مؤمنة، وكافرة. وقال الزجاج: النصب بتقدير أعني؛ وسميت الجماعة من الناس فئة؛ لأنه يفاء إليها: أي: يرجع إليها في وقت الشدة. وقال الزجاج: الفئة: الفرقة مأخوذة من فأوت رأسه بالسيف: إذا قطعته، ولا خلاف أن المراد بالفئتين هما: المقتتلتان في يوم بدر، وإنما وقع الخلاف في المخاطب بهذا الخطاب، فقيل: المخاطب بها: المؤمنون. وقيل: اليهود. وفائدة الخطاب للمؤمنين: تثبيت نفوسهم، وتشجيعها، وفائدته إذا كان مع اليهود عكس الفائدة المقصودة بخطاب المسلمين. قوله: {يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ} قال أبو علي الفارسي: الرؤية في هذه الآية رؤية العين، ولذلك تعدت إلى مفعول واحد، ويدل عليه قوله: {رَأْىَ العين} والمراد أنه يرى المشركون المسلمين مثلي عدد المشركين، أو مثلي عدد المسلمين، وهذا على قراءة الجمهور بالياء التحتية، وقرأ نافع بالفوقية. وقوله: {مّثْلَيْهِمْ} منتصب على الحال. وقد ذهب الجمهور إلى أن فاعل ترون هم المؤمنون، والمفعول هم الكفار. والضمير في مثليهم يحتمل أن يكون للمشركين، أي: ترون أيها المسلمون المشركين مثلي ما هم عليه من العدد، وفيه بُعْد أن يكثر الله المشركين في أعين المؤمنين، وقد أخبرنا أنه قللهم في أعين المؤمنين، فيكون المعنى ترون أيها المسلمون المشركين مثليكم في العدد، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم، فقلل الله المشركين في أعين المسلمين، فأراهم إياهم مثلي عدتهم لتقوى أنفسهم. وقد كانوا أعلموا أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار، ويحتمل أن يكون الضمير في {مثليهم} للمسلمين، أي: ترون أيها المسلمون أنفسكم مثلي ما أنتم عليه من العدد لتقوى بذلك أنفسكم، وقد قال من ذهب إلى التفسير الأوّل- أعني: أن فاعل الرؤية المشركون، وأنهم رأوا المسلمين مثلي عددهم- أنه لا يناقض هذا ما في سورة الأنفال من قوله تعالى: {وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44] بل قللوا أوّلا في أعينهم ليلاقوهم، ويجترئوا عليهم، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا. قوله: {رَأْىَ العين} مصدر مؤكد لقوله: {يَرَوْنَهُمْ} أي: رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها {والله يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء} أي: يقوّي من يشاء أن يقويه، ومن جملة ذلك تأييد أهل بدر بتلك الرؤية {إِنَّ فِى ذَلِكَ} أي: في رؤية القليل كثيراً {لَعِبْرَةً} فعلة من العبور، كالجلسة من الجلوس. والمرد الاتعاظ، والتنكير للتعظيم، أي: عبرة عظيمة، وموعظة جسيمة. وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ} قال: كصنيع آل فرعون. وأخرج ابن المنذر، وأبو الشيخ، عنه قال كفعل. وأخرج مثله أبو الشيخ، عن مجاهد. وأخرج ابن جرير، عن الربيع قال: كسنتهم. وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، والبيهقي في الدلائل، عن ابن عباس: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب، ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع قال: " يا معشر يهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشاً، " قالوا يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفراً كانوا غماراً لا يعرفون القتال، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا، فأنزل الله: {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} إلى قوله: {أُوْلِى الأبصار}». وأخرج ابن جرير، وابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن عاصم بن عمر بن قتادة مثله. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن عكرمة قال: قال فنحاص اليهودي، وذكر نحوه. وأخرج ابن جرير، عن قتادة في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ} عبرة، وتفكر. وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تقاتل فِى سَبِيلِ الله} أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر {وأخرى كَافِرَةٌ} فئة قريش الكفار. وأخرج عبد الرزاق أن هذه الآية نزلت في أهل بدر. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الربيع في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ} يقول: قد كان لكم في هؤلاء عبرة، ومتفكر أيدهم الله، ونصرهم على عدوهم يوم بدر، كان المشركون تسعمائة وخمسين رجلاً، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً. وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود في الآية قال: هذا يوم بدر نظرنا إلى المشركين، فرأيناهم يضعفون علينا ثم نظرنا إليهم، فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في الآية قال: أنزلت في التخفيف يوم بدر على المؤمنين كانوا يومئذ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وكان المشركون مثليهم ستمائة وستة وعشرين، فأيد الله المؤمنين.
{زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)} قوله: {زُيّنَ لِلنَّاسِ} الخ: كلام مستأنف لبيان حقارة ما تستلذه الأنفس في هذه الدار، والمزين قيل: هو الله سبحانه، وبه قال عمر، كما حكاه عنه البخاري، وغيره، ويؤيد قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ} [الكهف: 7]. وقيل: المزين هو الشيطان، وبه قال الحسن، حكاه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عنه. وقرأ الضحاك: «زين» على البناء للفاعل. وقرأه الجمهور على البناء للمفعول. والمراد بالناس: الجنس. والشهوات جمع شهوة، وهي نزوع النفس إلى ما تريده. والمراد هنا: المشتهيات عبر عنها بالشهوات، مبالغة في كونها مرغوباً فيها، أو تحقيراً لها؛ لكونها مسترذلة عند العقلاء من صفات الطبائع البهيمية، ووجه تزيين الله سبحانه لها: ابتلاء عباده، كما صرح به في الآية الأخرى. وقوله: {مِنَ النساء والبنين} في محل الحال: أي: زين للناس حب الشهوات حال كونها من النساء، والبنين الخ. وبدأ بالنساء لكثرة تشوّق النفوس إليهنّ؛ لأنهن حبائل الشيطان، وخص البنين دون البنات؛ لعدم الاطراد في محبتهن. والقناطير جمع قنطار، وهو اسم للكثير من المال. قال الزجاج: القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه: تقول العرب قنطرت الشيء: إذا أحكمته، ومنه سميت القنطرة لإحكامها. وقد اختلف في تقديره على أقوال للسلف ستأتي إن شاء الله. واختلفوا في معنى {المقنطرة}، فقال ابن جرير الطبري: معناها المضعفة، وقال القناطير: ثلاثة، والمقنطرة تسعة. وقال الفراء: القناطير جمع القنطار، والمقنطرة جمع الجمع، فتكون تسع قناطير، وقيل: المقنطرة: المضروبة، وقيل: المكلمة كما يقال: بدرة مبدرة، وألوف مؤلفة، وبه قال مكي، وحكاه الهروي. وقال ابن كيسان: لا تكون المقنطرة أقلّ من سبع قناطير. وقوله: {مِنَ الذهب والفضة} بيان للقناطير، أو حال {والخيل المسومة} قيل: هي المرعية في المروج، والمسارح، يقال سامت الدابة، والشاة: إذا سرحت، وقيل: هي المعدّة للجهاد. وقيل: هي الحسان، وقيل: المعلمة من السومة، وهي العلامة، أي: التي يجعل عليها علامة لتتميز عن غيرها. وقال ابن فارس في المجمل: المسومة: المرسلة، وعليها ركبانها. وقال ابن كيسان: البلق. والأنعام هي: الإبل، والبقر، والغنم، فإذا قلت: نعم: فهي الإبل خاصة قاله الفراء، وابن كيسان، ومنه قول حسان: وَكَانَتْ لا يَزَالُ بِها أنِيس *** خِلاَلَ مُروجَهَا نَعمٌ وشَاءُ والحرث: اسم لكل ما يحرث، وهو مصدر سمي به المحروث، يقول حرث الرجل حرثاً: إذا أثار الأرض، فيقع على الأرض، والزرع. قال ابن الأعرابي الحرث: التفتيش. قوله: {ذلك متاع الحياة الدنيا} أي: ذلك المذكور ما يتمتع به، ثم يذهب، ولا يبقى، وفيه تزهيد في الدنيا، وترغيب في الآخرة. و{المآب}: المرجع آب يئوب إياباً: إذا رجع، ومنه قول امريء القيس: لَقَد طَوّفْتُ فِي الآفَاقِ حَتَّى *** رَضِيتُ منَ الغَنِيمةِ بالإيَابِ قوله: {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم} أي: هل أخبركم بما هو خير لكم من تلك المستلذات؟ وإبهام الخير للتفخيم، ثم بينه بقوله: {لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات} وعند في محل نصب على الحال من جنات، وهي مبتدأ، وخبرها للذين اتقوا، ويجوز أن تتعلق اللام بخير. وجنات خبر مبتدأ مقدّر، أي: هو جنات، وخص المتقين؛ لأنهم المنتفعون بذلك. وقد تقدّم تفسير قوله: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} وما بعده. قوله: {الذين يَقُولُونَ} بدل من قوله: {لّلَّذِينَ اتقوا} أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين، أو منصوب على المدح، والصابرين، وما بعده نعت للموصول على تقدير كونه بدلاً، أو منصوباً على المدح، وعلى تقدير كونه خبراً يكون الصابرين، وما بعده منصوبة على المدح، وقد تقدّم تفسير الصبر، والصدق، والقنوت. قوله: {والمستغفرين بالأسحار} هم: السائلون للمغفرة بالأسحار. وقيل: المصلون. والأسحار جمع سحر بفتح الحاء، وسكونها. قال الزجاج: هو من حين يدبر الليل إلى أن يطلع الفجر، وخص الأسحار؛ لأنها من أوقات الإجابة. وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عمر بن الخطاب، لما نزلت: {زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} قال: الآن يا ربّ حين زينتها لنا، فنزلت: {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ}. وأخرجه ابن المنذر عنه بلفظ «خير» انتهى إلى قوله: {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ} فبكى، وقال: بعد ماذا، بعد ماذا بعد ما زينتها. وأخرج أحمد، وابن ماجه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القنطار اثنا عشر ألف أوقية» رواه أحمد من حديث عبد الصمد بن عبد الوارث، عن حماد، عن عاصم عن أبي صالح عنه. ورواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عبد الصمد به. وقد رواه ابن جرير موقوفاً على أبي هريرة. قال ابن كثير: وهذا أصح. وأخرج الحاكم وصححه، عن أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القناطير المقنطرة، فقال: «القنطار ألف أوقية» ورواه ابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه مرفوعاً بلفظ «ألف دينار». وأخرج ابن جرير، عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القنطار ألف أوقية، ومائتا أوقية» وأخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي من قول معاذ بن جبل. وأخرجه ابن جرير من قول ابن عمر. وأخرجه عبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي من قول أبي هريرة. وأخرجه ابن جرير، والبيهقي من قول ابن عباس. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري، قال: القنطار ملء مسك جلد الثور ذهباً. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عمر أنه قال: القنطار سبعون ألفاً، وأخرجه عبد بن حميد، عن مجاهد. وأخرج أيضاً عن سعيد بن المسيب قال القنطار ثمانون ألفاً. وأخرج أيضاً، عن أبي صالح قال: القنطار مائة رطل. وأخرجه أيضاً عن قتادة، وأخرج ابن أبي حاتم، عن أبي جعفر قال: القنطار خمسة عشر ألف مثقال، والمثقال أربعة وعشرون قيراطاً، وأخرج ابن جرير، عن الضحاك قال: هو المال الكثير من الذهب، والفضة. وأخرجه أيضاً، عن الربيع. وأخرج عن السدي: أن المقنطرة: المضروبة. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي، عن ابن عباس {والخيل المسومة} قال: الراعية. وأخرج ابن المنذر، عنه من طريق مجاهد. وأخرج ابن جرير عنه قال: هي الراعية، والمطهمة الحسان. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد قال: هي المطهمة الحسان. وأخرجا، عن عكرمة قال: تسويمها حسنها. وأخرج ابن أبي حاتم، قال: {الخيل المسومة} الغرّة، والتحجيل، وأخرج عبد بن حميد، عن قتادة في قوله الصابرين قال: قوم صبروا على طاعة الله، وصبروا عن محارمه، والصادقون: قوم صدقت نياتهم، واستقامت قلوبهم، وألسنتهم، وصدقوا في السرّ، والعلانية، والقانتون: هم المطيعون، والمستغفرون بالأسحار: أهل الصلاة. وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة قال: هم الذين يشهدون صلاة الصبح. وأخرج ابن جرير، وابن مردويه، عن أنس قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستغفر بالأسحار سبعين مرة. وأخرج ابن جرير، وأحمد في الزهد، عن سعيد الجريري؛ قال: بلغنا أن داود عليه السلام سأل جبريل، فقال: يا جبريل أي الليل أفضل؟ قال: يا داود ما أدري إلا أن العرش يهتز في السحر. وقد ثبت في الصحيحين، وغيرهما، عن جماعة من الصحابة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقي ثلث الليل الآخر، فيقول هل من سائل، فأعطيه، هل من داع، فأستجيب له، هل من مستغفر، فأغفر له؟».
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)} قوله: {شَهِدَ الله} أي: بين وأعلم. قال الزجاج: الشاهد هو الذي يعلم الشيء، ويبينه، فقد دلنا الله على وحدانيته بما خلق وبيّن، وقال أبو عبيدة: شهد الله بمعنى قضى، أي: أعلم. قال ابن عطية: وهذا مردود من جهات، وقيل: إنها شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله، ووحيه بشهادة الشاهد في كونها مبينة. وقوله {أنه} بفتح الهمزة. قال المبرد: أي: بأنه ثم حذفت الباء، كما في أمرتك الخير، أي: بالخير. وقرأ ابن عباس: «إنه» بكسر الهمزة بتضمين {شهد} معنى " قال ". وقرأ أبو المهلب: «شهداء لله» بالنصب على أنه حال من الصابرين، وما بعده، أو على المدح: {والملئكة} عطف على الاسم الشريف، وشهادتهم إقرارهم بأنه لا إله إلا الله. وقوله: {وَأُوْلُواْ العلم} معطوف أيضاً على ما قبله، وشهادتهم بمعنى الإيمان منهم، وما يقع من البيان للناس على ألسنتهم، وعلى هذا لا بدّ من حمل الشهادة على معنى يشمل شهادة الله، وشهادة الملائكة، وأولي العلم. وقد اختلف في أولي العلم هؤلاء من هم؟ فقيل: هم الأنبياء؛ وقيل: المهاجرون، والأنصار، قاله ابن كيسان. وقيل: مؤمنو أهل الكتاب، قاله مقاتل. وقيل: المؤمنون كلهم، قاله السدي، والكلبي، وهو الحق إذ لا وجه للتخصيص. وفي ذلك فضيلة لأهل العلم جليلة، ومنقبة نبيلة؛ لقربهم باسمه، واسم ملائكته، والمراد بأولي العلم هنا: علماء الكتاب، والسنة، وما يتوصل به إلى معرفتهما، إذ لا اعتداد بعلم لا مدخل له في العلم الذي اشتمل عليه الكتاب العزيز، والسنة المطهرة. وقوله: {قَائِمَاً بالقسط} أي: العدل، أي: قائماً بالعدل في جميع أموره، أو مقيماً له، وانتصاب {قائماً} على الحال من الاسم الشريف. قال في الكشاف: إنها حال مؤكدة كقوله: {وَهُوَ الحق مُصَدّقًا} [البقرة: 91] وجاز إفراده سبحانه بذلك دون ما هو معطوف عليه من الملائكة، وأولي العلم لعدم اللبس، وقيل: إنه منصوب على المدح. وقيل: إنه صفة لقوله: {إِلَهٍ} أي: لا إله قائماً بالقسط، إلا هو، أو هو حال من قوله: {إِلاَّ هُوَ} والعامل فيه معنى الجملة. وقال الفراء: هو منصوب على القطع؛ لأن أصله الألف، واللام، فلما قطعت نصب كقوله: {وَلَهُ الدين وَاصِبًا} [النحل: 52] ويدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود " القائم بالقسط ". وقوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} تكرير لقصد التأكيد؛ وقيل: إن قوله: {أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} كالدعوى، والأخيرة كالحكم. وقال جعفر الصادق الأولى وصف، وتوحيد، والثانية رسم، وتعليم. وقوله: {العزيز الحكيم} مرتفعان على البدلية من الضمير، أو الوصفية لفاعل شهد لتقرير معنى الوحدانية. قوله: {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام}. قرأه الجمهور بكسر إن على أن الجملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى، وقريء بفتح أن. قال الكسائي: أنصبهما جميعاً يعني قوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ} وقوله: {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} بمعنى شهد الله أنه كذا، وأن الدين عند الله الإسلام. قال ابن كيسان: إن الثانية بدل من الأولى. وقد ذهب الجمهور إلى أن الإسلام هنا بمعنى الإيمان، وإن كانا في الأصل متغايرين، كما في حديث جبريل الذي بيّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم معنى الإسلام، ومعنى الإيمان، وصدقه جبريل، وهو في الصحيحين، وغيرهما ولكنه قد يسمى كل واحد منهما باسم الآخر، وقد ورد ذلك في الكتاب والسنة. قوله: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ} فيه الإخبار بأن اختلاف اليهود، والنصارى كان لمجرد البغي بعد أن علموا بأنه يجب عليهم الدخول في دين الإسلام بما تضمنته كتبهم المنزلة إليهم. قال الأخفش: وفي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: ما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم. والمراد بهذا الخلاف الواقع بينهم هو خلافهم في كون نبينا صلى الله عليه وسلم نبياً أم لا؟ وقيل اختلافهم في نبوّة عيسى، وقيل: اختلافهم في ذات بينهم حتى قالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء. قوله: {وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله} أي: بالآيات الدالة على أن الدين عند الله الإسلام {فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} فيجازيه، ويعاقبه على كفره بآياته، والإظهار في قوله: {فإن الله} مع كونه مقام الإضمار للتهويل عليهم، والتهديد لهم. قوله: {فَإنْ حَاجُّوكَ} أي: جادلوك بالشبه الباطلة، والأقوال المحرّفة، {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ} أي: أخلصت ذاتي لله، وعبر بالوجه عن سائر الذات لكونه أشرف أعضاء الإنسان، وأجمعها للحواس، وقيل: الوجه هنا بمعنى: القصد. وقوله: {وَمَنِ اتبعن} عطف على فاعل أسلمت، وجاز للفصل. وأثبت نافع، وأبو عمرو، ويعقوب الياء في {اتبعن} على الأصل، وحذفها الآخرون اتباعاً لرسم المصحف، ويجوز أن تكون «الواو» بمعنى «مع» والمراد بالأميين هنا: مشركو العرب. وقوله: {ءأَسْلَمْتُمْ} استفهام تقريري يتضمن الأمر، أي: أسلموا، كذا قاله ابن جرير، وغيره. وقال الزجاج: {ءأَسْلَمْتُمْ} تهديد، والمعنى: أنه قد أتاكم من البراهين ما يوجب الإسلام، فهل علمتم بموجب ذلك أم لا؟ تبكيتا لهم، وتصغيراً لشأنهم في الإنصاف، وقبول الحق. وقوله: {فَقَدِ اهتدوا} أي: ظفروا بالهداية التي هي الحظ الأكبر، وفازوا بخير الدنيا، والآخرة {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي: أعرضوا عن قبول الحجة، ولم يعملوا بموجبها {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} أي: فإنما عليك أن تبلغهم ما أنزل إليك، ولست عليهم بمسيطر، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، والبلاغ مصدر. وقوله: {والله بَصِيرٌ بالعباد} فيه وعد ووعيد لتضمنه أنه عالم بجميع أحوالهم. وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله: {قَائِمَاً بالقسط} قال: بالعدل. وأخرج أيضاً، عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} قال: الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودلّ عليه أولياءه لا يقبل غيره. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الضحاك قال: لم يبعث الله رسولاً إلا بالإسلام. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن سعيد بن جبير قال: كان حول البيت ستون وثلثمائة صنم لكل قبيلة من قبائل العرب صنم، أو صنمان، فأنزل الله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} الآية، فأصبحت الأصنام كلها قد خرّت، سجداً للكعبة. وأخرج ابن السني في عمل اليوم، والليلة، وأبو منصور الشحامي في الأربعين، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن فاتحة الكتاب، وآية الكرسي، والآيتين من آل عمران {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَائِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم. إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} {قُلِ اللهم مالك الملك تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} إلى قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26، 27] هن معلقات بالعرش ما بينهن، وبين الله حجاب، يقلن: يا ربّ تهبطنا إلى أرضك، وإلى من يعصيك؟ قال الله: إني حلفت لا يقرؤكن أحد من عبادي دبر كل صلاة إلا جعلت الجنة مأواه على ما كان منه، وإلا أسكنته حظيرة القدس، وإلا نظرت إليه بعيني المكنونة كل يوم سبعين نظرة، وإلا قضيت له كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، وإلا أعذته من كل عدو، ونصرته منه " وأخرج الديلمي في مسند الفردوس، عن أبي أيوب الأنصاري مرفوعاً نحوه، وفيه: " لا يتلوكن عبد دبر كل صلاة مكتوبة إلا غفرت له ما كان منه، وأسكنته جنة الفردوس، ونظرت إليه كل يوم سبعين مرة، وقضيت له سبعين حاجة أدناها المغفرة " وأخرج أحمد، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن السني، عن الزبير بن العوام قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بعرفة يقرأ هذه الآية: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَائِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} فقال: " وأنا على ذلك من الشاهدين " ولفظ الطبراني «وأنا أشهد أن لا إله إلا أنت العزيز الحكيم». وأخرج ابن عدي، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في شعب الإيمان، وضعفه، والخطيب في تاريخه، وابن النجار عن غالب القطان؛ قال: أتيت الكوفة في تجارة، فنزلت قريباً من الأعمش. فلما كان ليلة أردت أن أنحدر قام، فتهجد من الليل، فمرّ بهذه الآية {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} إلى قوله: {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} فقال: وأنا أشهد بما شهد به الله، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي وديعة عند الله، قالها مراراً، فقلت: لقد سمع فيها شيئاً، فسألته فقال: حدثني أبو وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بصاحبها يوم القيامة، فيقول الله: عبدي عهد إليَّ، وأنا أحق من وفيَّ بالعهد أدخلوا عبدي الجنة» وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، في قوله: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} قال: بنو إسرائيل. وأخرج ابن جرير، عن أبي العالية في قوله: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} يقول: بغياً على الدنيا، وطلب ملكها، وسلطانها. فقتل بعضهم بعضاً على الدنيا من بعد ما كانوا علماء الناس. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله: {فَإنْ حَاجُّوكَ} قال: إن حاجك اليهود، والنصارى. وأخرج ابن المنذر، عن ابن جريج، ونحوه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس: {وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب} قال: اليهود، والنصارى {والأميين} قال: هم: الذين لا يكتبون.
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)} قوله: {بآيات الله} ظاهره عدم الفرق بين آية وآية {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقّ} يعني: اليهود قتلوا الأنبياء {وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس} أي: بالعدل، وهم الذين يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، قال المبرد: كان ناس من بني إسرائيل جاءهم النبيون، فدعوهم إلى الله، فقتلوهم، فقام أناس من بعدهم من المؤمنين، فأمروهم بالإسلام، فقتلوهم. ففيهم نزلت الآية. وقوله: {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} خبر {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ} الخ، ودخلته الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط، وذهب بعض أهل النحو إلى أن الخبر قوله: {أُولَئِكَ الذين حَبِطَتْ أعمالهم} وقالوا إن الفاء لا تدخل في خبر إن، وإن تضمن اسمها معنى الشرط؛ لأنه قد نسخ بدخول «إن» عليه، ومنهم سيبويه، والأخفش، وذهب غيرهما إلى أن ما يتضمنه المبتدأ من معنى الشرط لا ينسخ بدخول «إن» عليه، ومثل المكسورة المفتوحة، ومنه قوله تعالى: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَئ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]. وقوله: {حَبِطَتْ أعمالهم} قد تقدم تفسير الإحباط، ومعنى كونها حبطت في الدنيا، والآخرة أنه لم يبق لحسناتهم أثر في الدنيا، حتى يعاملوا فيها معاملة أهل الحسنات، بل عوملوا معاملة أهل السيئات، فلعنوا وحل بهم الخزي، والصغار، ولهم في الآخرة عذاب النار. قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب} فيه تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكل من تصح منه الرؤية من حال هؤلاء، وهم أحبار اليهود. والكتاب: التوراة، وتنكير النصيب للتعظيم، أي: نصيباً عظيماً، كما يفيده مقام المبالغة، ومن قال: إن التنكير للتحقير، لم يصب، فلم ينتفعوا بذلك، وذلك بأنهم يدعون إلى كتاب الله الذي أوتوا نصيباً منه، وهو التوراة: {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مّنْهُمْ} والحال أنهم معرضون عن الإجابة إلى ما دعوا إليه مع علمهم به، واعترافهم بوجوب الإجابة إليه، و{ذلك} إشارة إلى ما مر من التولي، والإعراض بسبب {أَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات} وهي: مقدار عبادتهم العجل. وقد تقدم تفسير ذلك: {وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من الأكاذيب التي من جملتها هذا القول. قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جمعناهم لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} هو: ردّ عليهم، وإبطال لما غرهم من الأكاذيب، أي: فكيف يكون حالهم إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه، وهو يوم الجزاء الذي لا يرتاب مرتاب في وقوعه، فإنهم يقعون لا محالة، ويعجزون عن دفعه بالحيل، والأكاذيب {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي: جزاء ما كسبت على حذف المضاف {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بزيادة، ولا نقص. والمراد كل الناس المدلول عليهم بكل نفس. قال الكسائي: اللام في قوله: {لِيَوْمِ} بمعنى " في "، وقال البصريون: المعنى لحساب يوم. وقال ابن جرير الطبري المعنى لما يحدث في يوم. وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي عبيدة بن الجراح: قلت يا رسول الله أي الناس أشدّ عذاباً يوم القيامة؟ قال: " رجل قتل نبياً، أو رجلاً أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر "، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الذين يقتلون النبيين بِغَيْرِ حَقّ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس} إلى قوله: {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً أوّل النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل وسبعون رجلاً من عباد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعاً من آخر النهار من ذلك اليوم، فهم الذين ذكر الله " وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، عن ابن عباس قال: بعث عيسى يحيى بن زكريا في اثني عشر رجلاً من الحواريين يعلمون الناس، فكان ينهي عن نكاح بنت الأخ، وكان ملك له بنت أخ تعجبه، فأرادها، وجعل يقضي لها كل يوم حاجة، فقالت لها أمها: إذا سألك عن حاجة، فقولي حاجتي أن تقتل يحيى بن زكريا، فقال: سلي غير هذا، فقالت: لا أسألك غير هذا، فلما أبت أمر به، فذبح في طست، فبدرت قطرة من دمه، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر، فدلت عجوز عليه، فألقى في نفسه أن لا يزال يقتل حتى يسكن هذا الدم، فقتل في يوم واحد من ضرب واحد وسن واحد سبعين ألفاً فسكن. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن معقل بن أبي مسكين في الآية قال: كان الوحي يأتي بني إسرائيل، فيذكرون قومهم، ولم يكن يأتيهم كتاب، فيقوم رجال ممن اتبعهم، وصدقهم، فيذكرون قومهم، فيقتلون فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس. وأخرج ابن جرير، عن قتادة، نحوه. وأخرج ابن عساكر، عن ابن عباس، قال: {الذين يأمرون بالقسط من الناس}: ولاة العدل. وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له النعمان بن عمرو، والحارث بن زيد: على أي دين أتيت يا محمد؟ قال: " على ملة إبراهيم، ودينه، " قال: فإن إبراهيم كان يهودياً قال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: " فهلما إلى التوراة، فهي بيننا، وبينكم، " فأبيا عليه، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الكتاب يُدْعَوْنَ إلى كتاب الله} الآية». أخرج ابن أبي حاتم، عن أبي مالك في قوله: {نَصِيباً} قال: حظاً {مّنَ الكتاب} قال: التوراة. وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد في قوله: {قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلا أَيَّامًا معدودات} قال: يعنون الأيام التي خلق الله فيها آدم. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، عن قتادة في قوله: {وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} حين قالوا {نحن أبناء الله، وأحباؤه} [المائدة: 18]. وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ} يعني: توفي كل نفس برّ، أو فاجر {مَّا كَسَبَتْ} ما عملت من خير، أو شر {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} يعني: من أعمالهم.
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} قوله: {قُلِ اللهم}. قال الخليل، وسيبويه، وجميع البصرين: إن أصل اللهم: يا الله، فلما استعلمت الكلمة دون حرف النداء الذي هو «يا» جعلوا بدله هذه الميم المشددة، فجاءوا بحرفين، وهما الميمان عوضاً من حرفين، وهما الياء والألف، والضمة في الهاء هي: ضمة الاسم المنادي المفرد. وذهب الفراء، والكوفيون إلى أن الأصل في اللهم: يا ألله أمنا بخير، فحذف، وخلط الكلمتان، والضمة التي في الهاء هي: الضمة التي كانت في أمنا لما حذفت الهمزة انتقلت الحركة. قال النحاس: هذا عند البصريين من الخطأ العظيم، والقول في هذا ما قاله الخليل، وسيبويه، قال الكوفين، وقد يدخل حرف النداء على اللهم، وأنشدوا في ذلك قول الراجز: غفرت أو عذبت يا اللهما *** وقول الآخر: وَمَا عَلَيْكِ أنْ تَقُولي كُلَّمَا *** سَبَّحتِ أوْ هللتَ يَاللَّهُما وقول الآخر: إني إذَا مَا حَدَث ألَمَّا *** أقَولُ يَاللَّهُم ياللهما قالوا: ولو كان الميم عوضاً من حرف النداء لما اجتمعتا. قال الزجاج: وهذا شاذ لا يعرف قائله. قال النضر بن شميل: من قال: اللهم، فقد دعا الله بجميع أسمائه. قوله: {مالك الملك} أي: مالك جنس الملك على الإطلاق، ومالك منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان، أي: يا مالك الملك، ولا يجوز عنده أن يكون، وصفاً لقوله: {اللهم} لأن الميم عنده تمنع الوصفية. وقال محمد بن يزيد المبرد، وإبراهيم بن السري الزجاج: إنه صفة لاسم الله تعالى، وكذلك قوله تعالى: {قُلِ اللهم فَاطِرَ السموات والارض} [الزمر: 46]. قال أبو علي الفارسي: وهو مذهب المبرد، وما قاله سيبويه أصوب، وأبين، وذلك لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت، والأصوات لا توصف نحو غاق، وما أشبهه. قال الزجاج: والمعنى مالك العباد، وما ملكوا. وقيل: المعنى مالك الدنيا، والآخرة، وقيل: الملك هنا: النبوة، وقيل: الغلبة، وقيل: المال والعبيد، والظاهر: شموله لما يصدق عليه اسم الملك من غير تخصيص {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء} أي: من تشاء إيتاءه إياه {وَتَنزِعُ الملك مِمَّن تَشَاء} نزعه منه. والمراد بما يؤتيه من الملك، وينزعه هو نوع من أنواع ذلك الملك العام. قوله: {وَتُعِزُّ مَن تَشَاء} أي: في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما، يقال عزّ: إذا غلب، ومنه: {وَعَزَّنِى فِى الخطاب} [ص: 23]. وقوله: {وَتُذِلُّ مَن تَشَاء} أي: في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما، يقال ذلّ يذلّ ذلاً: إذا غلب وقهر. وقوله: {بِيَدِكَ الخير} تقديم الخبر للتخصيص، أي: بيدك الخير لا بيد غيرك، وذكر الخير دون الشرّ؛ لأن الخير بفضل محض بخلاف الشرّ، فإنه يكون جزاء لعمل وصل إليه. وقيل: لأن كلّ شرّ من حيث كونه من قضائه سبحانه هو: متضمن للخير، فأفعاله كلها خير، وقيل: إنه حذف، كما حذف في قوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] وأصله بيدك الخير والشرّ، وقيل: خص الخير؛ لأن المقام مقام دعاء. قوله: {إِنَّكَ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ} تعليل لما سبق، وتحقيق له. قوله: {تُولِجُ اليل فِى النهار وَتُولِجُ النهار فِى اليل} أي: تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر، وقيل: المعنى تعاقب بينهما، ويكون زوال أحدهما، ولوجاً في الآخر. قوله: {وَتُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} قيل: المراد: إخراج الحيوان، وهو حيّ من النطفة، وهي ميتة، وإخراج النطفة، وهي ميتة من الحيوان، وهو حيّ، وقيل المراد: إخراج الطائر، وهو حي من البيضة، وهي ميتة، وإخراج البيضة، وهي ميتة من الدجاجة، وهي حية، وقيل المراد: إخراج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: بغير تضييق، ولا تقتير، كما تقول: فلان يعطي بغير حساب، والباء متعلقة بمحذوف وقع حالاً. وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس، والروم في أمته، فنزلت الآية. وأخرج الطبراني، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: اسم الله الأعظم {قُلِ اللهم مالك الملك} إلى قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} وأخرج ابن أبي الدنيا، والطبراني، عن معاذ «أنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ديناً عليه، فعلمه أن يتلو هذه الآية، ثم يقول: " رحمن الدنيا، والآخرة، ورحيمهما، تعطي من تشاء منهما، وتمنع من تشاء، ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك، اللهم أغنني من الفقر، واقض عني الدين " وأخرج الطبراني في الصغير من حديث أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: " ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أحد دينا لأداه الله عنك " فذكره، وإسناده جيد، وقد تقدم عند تفسير قوله تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] بعض فضائل هذه الآية. وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {تُؤْتِى الملك مَن تَشَاء} قال: النبوة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن مسعود في قوله: {تُولِجُ اليل فِى النهار} الآية، قال: تأخذ الصيف من الشتاء، وتأخذ الشتاء من الصيف {وَتُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} تخرج الرجل الحيّ من النطفة الميتة {وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} تخرج النطفة الميتة من الرجل الحيّ. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {تُولِجُ اليل فِى النهار} قال: ما نقص من النهار تجعله في الليل، وما نقص من الليل تجعله في النهار. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي نحوه. وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد، نحوه. وأخرج عبد بن حميد، عن الضحاك، نحوه أيضاً. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس: {تُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} قال: تخرج النطفة الميتة من الحي، ثم تخرج من النطفة بشراً حياً. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن عكرمة {تُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} قال: هي البيضة تخرج من الحيّ، وهي: ميتة، ثم يخرج منها الحيّ. وأخرج ابن جرير عنه قال: النخلة من النواة، والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي مالك مثله. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن الحسن قال: المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. والمؤمن عبد حيّ الفؤاد، والكافر عبد ميت الفؤاد. وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن سلمان الفارسي، نحوه. وأخرج ابن مردويه، عنه مرفوعاً نحوه، وأخرجه أيضاً عنه، أو عن ابن مسعود، مرفوعاً. وأخرج عبد الرزاق، وابن سعد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن عبيد الله بن عبد الله: «أن خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: " من هذه؟ " قيل: خالدة بنت الأسود، قال: " سبحان الذي يخرج الحيّ من الميت " وكانت امرأة صالحة، وكان أبوها كافراً. وأخرج ابن سعد، عن عائشة مثله.
|